عندما يدعو المسيحي يسوع ابن الله، فإنه بهذه التسمية يشير إلى إيمانه بأن الله أدخل يسوع في علاقةٍ معه حميمةٍ فريدة، وأن رسالة الله الأزليّة وغير المخلوقة سكنت في يسوع. ولقب «ابن الله» يشير إلى معرفة متبادلة حميمة (يسوع يَعرف الآب)، وإلى وحدةٍ في الإرادة (يسوع لا يعمل إلا مشيئة الآب).
ولكن هل من الممكن أن نتخلى عن الاعتقاد بأن المسيح ابن الله في أمل التوفيق في الحوار؟ في الحقيقة، هذه القناعة الإيمانية هي العقيدة الرئيسية والتي على أساسها تمّ الانفصال بين تلاميذ المسيح وسائر اليهود، وعليها نشأ الدين المسيحي. فمنذ بدء المسيحية كان السؤال الذي يـُطرَح على من يريد اعتناق الدين المسيحيّ هو التالي: « هل تؤمن بأن يسوع المسيح المسيح ابن الله؟ » هذا السؤال طرحه الشماس فيلبس على قيّم كنداكة ملكة الحبشة، ولما رد بالإيجاب عمـّده فيلبس (راجع أعمال الرسل 8: 37). والأناجيل برواياتها الأربع كـُتبت لغاية رئيسية، كما يقول يوحنا في نهاية إنجيله، « لتؤمنوا أنَّ يسوع هو المسيح ابن الله، وتكون لكم، إذا آمنتم، الحياة باسمه» (يوحنا 20: 31). إنّ اعترافنا بأنّ المسيح هو ابن الله هو أولاً مرادف للاعتراف بأن يسوع هو المسيح. قولنا إن يسوع هو المسيح ليست عبارة جوفاء ولكنها مشبعة بالدلالات والمعاني والتي يمكن ترجمتها لإيمان تطبيقي عملي. يروي إنجيل يوحنا أن أندرواس الرسول، بعد أن تعرف إلى يسوع، لقي أخاه، فقال له: «لقد وجدنا ماسيّا، أي المسيح» (يوحنا 1: 14). ثم صادف فيلّبس نثنائيل، فقال له: إنّ الذي كتب عنه موسى في الناموس وكتب عنه الأنبياء أيضًا قد وجدناه. فهو يسوع بن يوسف من الناصرة» (يوحنا 1: 45). وفي إنجيل مرقس، عندما سأل يسوع تلاميذه في قيصريّة فيلبس: « في نظركم، أنتم، من أنا؟» أجاب بطرس وقال له: «أنت المسيح ابن الله الحيّ» (متى 16: 16). وفي مواضع كثيرة في العهد الجديد، يرد لقب ابن الله إلى جانب لقب المسيح، وكأنهما مترادفان. فمرقس يبدأ إنجيله بقوله: «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله» (مرقس1: 1). ويوحنا يختم إنجيله بالشهادة ليسوع المسيح ابن الله: «وصنع يسوع أمام التلاميذ آيات أخرى كثيرة لم تدوَّن في هذا الكتاب، وإنما دُوِّنت هذه لكي تؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله» (يوحنا 20: 30- 31).
وتلاميذ المسيح الذين صاحبوه ولازموه رأوا في مجيئه تحقيقًا لـ نبوءات العهد القديم حيث كانت تلك النبوءات تتكلم تارة عن المسيح وتارة عن ابن الله. وأنبياء العهد القديم كانوا ينتظرون مجيء المسيح وينتظرون في قدومه أنه سيكون ابن الله كذلك. جاء في نبوءة ناتان لداود: «متى تمّت أيّامك واضّجعت مع آبائك، سأقيم من يليك من نسلكّ الذي يخرج من صلبكَ، وأُقرّ ملكه. فهو يبني بيتًا لإسمي، وأنا أُقر عرش ملكه إلى الأبد. أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا» (2ملوك 7: 12-14). تلك النبوءة كانت بمثابة نقطة انطلاق لترقّب مجيء المسيح ملكاً من نسل داود وفيها تجتمع صفات المسيح كملك وابن وله عرش يدوم ملكه للأبد. وهذا ما رآه الرسل والمسيحيون الأوائل في شخص يسوع أنه تحقيق وعود الله بإرسال هذا الملك «المسيح» و«ابن الله»، الذي سوف يملك على بيت يعقوب ولن يكون لملكه انقضاء. في نظر المسيحيين الأوائل كان يسوع هو «إسرائيل الجديد»، أي تحقيق سائر الآمال المشيحيّة التي راودت الشعب اليهوديّ. وكما أن الشعب اليهودي دُعي «ابن الله»، أي شعب الله المختار المحبوب، فيسوع أيضا، «إسرائيل الجديد»، يدعوه الذين يؤمنون به «ابن الله». هذا ما عبّر عنه لوقا في روايته بشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم بولادة يسوع. وقد وضع على سان الملاك الأقوال الحرفيّة التي عبّر فيها العهد القديم عن وعد الله بمجيء المسيح: «ها أنت تحبلين وتلدين ابنًا، وتسمّينه يسوع. إنه يكون عظيمًا، وابن العليّ يُدعى، وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الدهر ولن يكون لملكه انقضاء». وعلى سؤال مريم: «كيف يكون ذلك، وأنا لا أعرف رجلاً؟» يجيب الملاك: «الروح القدس يأتي عليك وقدرة العليّ تظّللك، ومن أجل ذلك فالقدّوس الذي يولد منك يُدعى ابن الله» (لو 1: 31- 35). فبحسب هذا النصّ، يدعى يسوع ابن الله، لأنّه ولد مباشرة بقدرة الروح القدس دون أبٍ من بني البشر.
عندما نقول إن المسيح كلمة الله فهذا يعني أنه نطق الله أي تعبير عن الله وإعلان عنه وعن كينونته. وكما أن كلمة الإنسان التي هي التعبير عن عقل الإنسان، هي من جوهر الإنسان، كذلك كلمة الله الذي هي التعبير عن عقل الله هي من جوهر الله. نقول هي من جوهر الله ولا نقول إنها إله إلى جانب الله. في شخص يسوع يظهر لنا الله ظهورًا ذاتيًّا أي ظهورًا كاملاً ونهائيًا في شخص يسوع، وأوحى لنا بذاته الوحي الذاتيّ أي الكامل والنهائي في حياة يسوع وأقواله وأعماله وموته وقيامته. وهذا ما تقوله رسالة العبرانيين في مستهلها: «إنّ الله، بعد إذ كلّم الأباء قديما بالأنبياء مرارًا عديدة وبشتَّى الطرق، كلّمنا نحن في هذه الأيام الأخيرة بالابن الذي جعله وارثًا لكل شيء، وبه أيضًا أنشأ العالم، الذي هو ضياء مجده، وصورة جوهره، وضابط كل شيء بكلمة قدرته» ( عب 1: 1). فـ يسوع هو الابن الذي به عرفنا الآب. لذلك، عندما نعلن نحن المسيحيين إيماننا بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله، نعلن في الوقت عينه إيماننا بأننا لا نستطيع من بعد مجيء المسيح أن نتكلم عن الله إلا من خلال يسوع المسيح ابن الله الذي أظهر لنا الله. ولا نقبل أن يتكلم أيّ إنسان عن الله كلامًا مختلفًا عن الكلام الذي جاءنا به ابن الله يسوع المسيح. تلك هي نقطة الانطلاق لعقيدة الثالوث القدُّوس في العهد الجديد وفي المسيحية. فالإيمان بالثالوث ليس نظرية فلسفية اخترعها الفكر البشريّ و تصورًا عقلانيًا عن الله، و لا بقية من بقايا الفكر الوثنيّ. إنـّما هو تعبير عن ظهور الله ظهورًا ذاتيًا في شخص يسوع المسيح. فالله هو الآب، وقد ظهر لنا في ابنه يسوع المسيح. في يسوع المسيح، يظهر كمال الوحي أي هو الوحي الكامل لله. في شخص يسوع المسيح بالذات قد ظهر كمال الوحي للعالم، ولأجل ذلك يدعوه الإنجيل «كلمة الله الأزلية غير المخلوقة». فالفرق بين المسيحية والإسلام بالنسبة إلى التوحيد والتثليث لا يقوم إذًا على تعدد الآلهة، بل على تجليّ الإله الواحد للبشر. فكلا المسيحية والإسلام يؤمنان بإلهٍ واحد لا شريك له، ويؤمنان بأنَّ هذا الإله اتصل بالبشر. ولكن المسيحية تؤمن بأن هذا الإله الواحد قد اتصل بالبشر في العهد القديم من خلال كلامه بواسطة الأنبياء، وفي العهد الجديد من خلال تجليه في كامل جوهره الإلهي في شخص يسوع المسيح. أما الإسلام فيقول إن الله لا يتصل بالبشر إلا من خلال كلام الأنبياء الذين يرسلهم إلى العالم ليكشفوا للناس عن إرادته وأحكامه ووصاياه؛ ويسوع المسيح هو أحد هؤلاء الأنبياء. ولأن المسيح هو الوحي الكامل لله، فالمسيحي لا ينتظر وحيًّا آخر يأتيه ليكمل هذا الوحي ولا نبيًا آخر يكشف للبشر عن الله شيئا لم يكشفه السيد المسيح. في شخص السيد المسيح حصلت البشرية على كمال الوحي؛ ومع كمال الوحي حصلت على الخلاص والفداء. ومن هنا لا ننتظر نبيًا آخر يعطينا وحيًّا جديدًا ولا مخلصًا آخر غير يسوع المسيح.